الحلقة الأولي:
الشاعر: محمد الحافظ ولد أحمدو |
في مقابلة جديدة ل"الأخبار" مع الشاعر الموريتاني الكبير محمد الحافظ ولد أحمدو، طرقت مختلف الجوانب الأدبية والثقافية في حياة ولد أحمدو, استذكر لنا أيام النشأة في علب آدرس وبدايته مع الشعر وفترته في معهد أبي تلميت بين "علية" القوم كما يقول, من منتصف سبعينات القرن الماضي بدأ الرجل يحمل حقيبته في المطارات في سبيل الشعر, زار العراق مرات عديدة وأقام في بغداد برهة من الزمن يجالس البياتي وشعراء دجلة والفرات, ثم يممت راحلته صوب المسجد الحرام, فأقام بمكة شهرا "كعشر سنوات" كما يصف, مرة في بغداد قال له أحدهم إن نزار قباني أشعر من المتنبي لسبب واحد بسيط هو أنه هجا السادات رئيس مصر الراحل، فرد عليه ولد أحمدو هذه لن تفضله على المتنبي، فالمتنبي هجاه يقول:
لا يدرك المجد إلا سيد فطن لما يشق على السادات فعال
لا يقرأ الشاعر الذي يعيش في بيته بين الكتب التي ينفق كل ماله في سبيل جلبها, لا يقرأ شعر غيلان إلا فاضت عبرته, مرة ذهب يستجلب لأهله بعض الحاجات المطبخية فصادفه بائع الكتب في الطريق اشترى بالمبلغ الذي بجيبه كتبا وعاد إلى أهله بغير ما ينتظرون.
إذا زرته يتنقل بك بين مختلف العلوم في لحظة واحدة، يحدثك عن ابن تيمة وعن طه حسين ويقوم ليريك كلاما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، ثم يستشهد لك بشعر الجاهليين، ويعطيك رأيه في أدونيس.
"الأخبار" أجرت معه حوارا شاملا مطولا من أطول اللقاءات مع ولد أحمدو تسعى من خلاله إلى تقديم الكثير من أخبار هذا الشاعر إلى القراء والمهتمين, وسينشر في حلقات.
(الحلقة الأولى)
نتشرف بكم، ونسأل عن كيف كانت نشأتكم، وارتباطكم بالثقافة والمعرفة داخل بيئتكم الاجتماعية؟
محمد الحافظ: أنا أشكركم لإتاحة الفرصة لهذا الحديث, ولو أن الحديث عن النفس يصدق فيه قول أحد الفلاسفة الأوروبيين" إن أسمج الحق حديث المرء عن نفسه" فهو حتى ولو كان حقا يكون سمجا. فما بلك حفظنا الله وإياك إذا كان كذبا.
على كل، أنا نشأت في بيئة مليئة بالعلماء والأدباء، أغلب علمائها أدباء وشعراء ورواة وظرفاء. كانت تلك البيئة في ضواحي مدينة "بو تلميت" في مكان قريب من ما يسمى الآن "علب آدرس" ووقتها كنا نكون حول بئرها.
ما هو انطباعكم أنتم الآن عن هذه البيئة؟
أنا من وجهة نظري أن الإنسان دائما يصدق عليه قول الشاعر عمرو بن أبي ربيعة "حسن في كل عين من تود" ولكن أنا الآن راض عن أغلب ما فيها. لأني وجدت علماء صلحاء متقنين للغة العربية ومتسامحين. وجدت فيها تعايشا بين التصوف بطرقه المتعددة وبين من لم يتصوف. وكان فينا أشخاص يشبه أن يكونوا من المتشددين تقريبا في البدع وما شاكلها. ولكنهم متعايشون مع الصوفية تعايشا سلميا ليس فيه أي تناقض. فأنا أرى أن هؤلاء كانوا من الحكمة والعلم والفضل بحيث لم يقع بينهم أي تناقض، ولا أي شيء. أذكر من مشايخي العلامة محمدن ولد الطلبة ولد أحمدو فال. الذي قيل في أبيه لمرابط ولد أحمدو فال " ماكيفو أحد اسو منه** في امتثال الكال الفعال**واجتناب الناهي عنه" كان خلقه مدرسة أخلاقية تحتذى. وكنت أرى فيه أو أشبهه - ولا أزكي على الله أحدا - بما قالت عائشة عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " كان خلقه القرءآن" ودرست على العلامة الدنبجه ولد معاوي وهذا قريب لي جدا. أبوه عم والدتي وهو أستاذي الأساسي في النحو. درست عليه طرة بن بونه. ودرست عليه أيضا "الشعراء الستة الجاهليين" وإن كنت قد درست شعر زهير على العلامة محمدن ولد أحمدو فال. ودرست عليه أيضا بعض النحو. وعادة تتخلل الدراسة هنا وهناك. فنحن على كل حال كنا أحياء. أحوية، والحواء مجموعة من بيوت العرب. كنا أحوية تلتئم مرة ومرة تكون لكل منها بئره التي يقطن فيها. كما قال تميم بن أبي بن مقبر العجلاني:
قوم محاضرهم شتى ويجمعهم ** دوم الإياب وفاثور إذا انتجعوا.
المكان الذي تكون فيه النجعة تكون فيه البقول والمياه، فلذا تجتمع الناس عنده وتفترق إذا فقدت هذه الأشياء.
- بدايتكم مع الشعر كيف تستذكرونها؟
محمد الحافظ: منذ نشأتي وأنا مرتبط بالشعر. أذكر أني كنت كلما سمعت قصيدة جميلة تمنيت لو قلت مثلها. وكنت كلما رأيت منظرا مؤثرا أجد حزازة في نفسي على أني لم أقل شعرا جميلا يتناسب مع المنظر. أذكر أني كلما قرأت لغيلان تفيض دموعي إلى الآن، وعادة إذا أردت أن أقرء القرآن أقرء شعر غيلان أولا حتى إذا فاضت دمعتي أخذت القرءان حتى أكون متباكيا في القرءان.
- ما الذي يثير هذه الدمعة خلال قراءتكم لغيلان؟ ما هو السر برأيكم؟
محمد الحافظ: لأن بيئة الشاعر غيلان تشبه بيئتنا لدرجة أن ناقة غيلان التي تسمى "صيدح" أصبح اسمها وصفا لكل ناقة تركب عندنا. وهذا من تأثير غيلان فينا. ومرة نازلت شاعرا عراقيا قال يمازحني: إن الشناقطة الموريتانيين طيبون، ولكنهم يلبسون عرائسهم ثياب الحداد. قلت له وأنتم تلبسونهم الأكفان.- لأنهم يلبسونهن ثيابا بيضاء -. ونحن هذا التقليد الذي نصنعه هو تقليد أندلسي . وقال فيه غيلان:
وليل كجلباب العروس ادرعته ** بأربعة والشخص في العين واحد
أحم علافي وأبيض صــــارم ** وأعيش مهري وأبيض ماجد
- هل هناك شاعر آخر يحدث لكم معه انفعال معين مثل ما يحصل مع غيلان؟
محمد الحافظ: طبعا، هنالك المتنبي. أبو الطيب لا أستعبر بسببه. ولكن حبي لغيلان حب وجداني متأصل. وحبي للمتنبي عقلي، هو حب تأثر. وأنا أجمعهما عادة في فطور منهما أسميه "التمر بالزبد"
- أيهما التمر، وأيهما الزبد؟
محمد الحافظ: لك أن تختار!! حتى أني لا أميز بين أيهما التمر وأيهما الزبد, كلهما يمكن أن يكون تمرا ويمكن أن يكون زبدا, أردت أولا أن أقول لك إن الزبد هو غيلان، والتمر المتنبي. وعلى كل، التمر بزبد، كلام أصلا لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال "إذا وافق الحق الهوى فذلك التمر بالزبد" وأنا نظمت هذا في قصيدة لي:
وإن وافق الحق الهوى ولقلما قد اتفقا يوما، هما التمر والزبد
جئت بهذه الزيادة التي لها معنى تعليلي.
- بعد المحظرة التقليدية، انتقلتم إلى معهد أبو تلميت، كيف تستذكرون أيامكم في تلك المؤسسة النظامية؟
محمد الحافظ: لن أبرح المحظرة حتى أقول إن شعري نشأ في المحظرة, ومعهد أبي تلميت أنا أعتقد أنه لو كان أتيح له أن ترعاه الدولة في تلك الأيام رعاية حقيقية كان يمكن أن ينافس الأزهر في أيامه والزيتونه في أيامها, كان هناك علية القوم من رجال الثقافة, كان معنا العلامة محمد يحي ولد عدود رحمه الله ورضي عنه ونفعنا ببركته, كان رجلا صالحا وعالما لا تكدره الدلاء في النحو والفقه وفي كل شيء. وكان هناك المختار ولد حامدن أنا لم أدركه مدرسا هناك، كان قد انتقل، وكان هناك محمد عالي لم أدركه مدرسا, ولكني أدركته وهو في بوتلميت فكنت أختلف إليه أحيانا أقرء وأدرس عليه بعض الأبواب من الألفية التماسا لبركته, كنت ترى النور يشع من وجهه كأن وجهه يقطر نورا. كان من العلماء الربانيين، الصالحين فيما يظهر لي ولا أزكي على الله أحدا.
- كانت أيامكم في معهد أبو تلميت، والسنوات التي أعقبت ذالك، فترة الانتماءات الأيديولوجية، وظهور التيارات الفكرية، أين كنتم أنتم داخل ذلك التصنيف؟
محمد الحافظ: هذه الفترة بالذات كانت فيها بدايتي مع الشعر. لأني قلت الشعر تقريبا سنة 1969 أو نحو ذلك, وجئت إلى المعهد سنة 71 وكتبت قصيدة عن الأصالة الموريتانية, وكانت الفترة إذ ذاك في بداية تفكير موريتانيا في الانضمام إلى الجامعة العربية, ونظمت هنالك مسابقات، تلك المسابقة التي نجح فيها إسماعيل ولد محمد يحظيه بقصيدته:
يامورتان لك الكلاءة والظفر** فابقي إلى جنب العروبة لا مفر
أنا نجحت فيها على مستوى مؤسسة المعهد بقصيدة نونية من بحر الكامل لا أتذكر منها شيئا, ولكنها جاءت هي القصيدة الأولى.
أما فيما يتعلق بالاديولوجيات، فأنا يا أخي دفعت ثمن ذلك غاليا, لأني الآن يتحاماني الناس, وبالمناسبة نحن نستخدم كلمة "تحاماه الناس في غير موضعها" تحاماه الناس معناها: تركوه, رجل يتحاماه الناس معناها: يتحاشونه, أنا نازلت الشيوعية, فأنا أول شيء ضد الشيوعية,هذا هو مذهبي, باكرا أخذني بعض الشيوعيين وقرءوا علي صيحة المظلوم فوجدت الشيوعية هي أخطر شيء على الدين والعروبة، وعلى كل شيء, فقررت أني عدو الشيوعية, وما أزال عدوا لها, بالنسبة للفرقاء الآخرين, وجدتني أتقاطع معهم ولا أنسجم معهم. مثلا فيما يتعلق بالناصرييين، أنا عندي ميل عروبي ولكني أجد فيهم سطحية. وأجد أن معارفهم الدينية قليلة، وارتباطهم بالثقافة الإسلامية ضعيف, أما الإخوان المسلمون فعندهم ارتباط بالثقافة الإسلامية، ولكن أنا وجداني صوفي, ولم أنسجم معهم لهذه الناحية, لأني أنا صوفي وكنت أقول لهم: إن التصوف ثلث الإسلام من ناحية ونصفه من ناحية, ثلثه من حيث حديث جبريل "أن تعبد الله كأنك تراه" ونصفه من حيث حديث أركان الاسلام, وتيار البعث في ذلك الوقت لم يكن قد تقرر. البعث في ذلك الوقت كنا نسميه على أنه نوع من الشيوعية عليه الهيموكلوبين من العروبة, مع أني في ما بعد ذلك كرمني أهل بغداد, وأصبحوا يبعثون إلي كل سنة لأحضر المربد، ولكن ليس عن طريق الايديولوجيا. فقط لأن صدام رحمه الله كان يحب الأدب ويحترمه, أرادوا مرة أن أكون بعثيا, فقلت لهم إنكم تريدونني بثمن، وأنا أعطيكم نفسي مجانا, أنتم تحبون العروبة, وأنا أحب العروبة.
- هل حصل أن أقمتم في العراق؟
محمد الحافظ: حضرت مهرجان المربد مرات، وأقمت أيضا هناك فترة.
كيف كانت فترة إقامتكم هذه بالعراق؟
محمد الحافظ: هي من أخصب الفترات في حياتي, أنا أشبه نفسي فيها بتوفيق الحكيم عندما جاء إلى باريس ليدرس الحقوق فلم يدرسها، ولكنها تخصص في الأدب وخاصة المسرحيات, فأنا جئت إلى بغداد لأسجل فيها، وفاتني التسجيل فجعلت أختلف إلى المكتبات وأشتري الكتب، وعندما أقرأها أردها إلى المكتبات وأخصم شيئا منها فأشتري به كتبا أخرى, وأنا أشبه الأديب دائما ب"عر انتك تاره " لكي يؤكلها، لتغلولب رقبته, فالأديب دائما يقرأ لتزداد ثقافته وتغلولب رقبته في المعرفة, وهذا الكلام أظنه لرامبو شاعر إسباني.
- زمنكم في العراق، هل التقيت بمشاهير الأدباء هناك؟
محمد الحافظ: لقيت البياتي والسياب وجدته مات من زمان, وعبد الوهاب البياتي أمر أحد الذين يعملون معه في مجلة وعي العمال أن يجري معي مقابلة، وأجراها معي، والتقيت بالبيات مرة بعد تلك المرة أو مرتين.
- البياتي كيف هو عندك؟
محمد الحافظ: هم يعتبرونه مقدسا عندهم، يعتبرونه شاعرا عظيما. وأنا لا حظت أنه مفكر جمالي, أنا أقول إن أودونيس وعبد الوهاب البياتي مفكران جماليان. يعني كلاهما فيلسوف يتحدث عن الحضارة والأساطير بأسلوب يحاول أن يكون شعرا, ولكن البياتي أقوى من الناحية العروضية، والناحية الشعرية. ربما يكون خيال أودنيس أقوى، ولكن البياتي وجدت له قصائد يقلد بها المعري لا بأس بها من الناحية العمودية. وطبعا، التقيت هناك بأدباء آخرين عديدين.
- كيف كان المربد وأجواء اجتماع الشعراء هناك؟
محمد الحافظ: كنا نلتقي تقريبا بحوالي 3آلاف شاعر وهنالك شاعر أمريكي مرة ألقيت قصيدة 250 بيتا ومع أنه لا يفقه كلمة من اللغة العربية، وأنا لا أفقه اللغة الانكليزية. أحبني حبا شديدا وعمل مني صورا، وكتب عني هنالك.
مالذي كتب عنك في أمريكا، ماذا قال؟
محمد الحافظ: لم أطلع على ما كتب, لكنه هو أخبرني أنه نشر عني, وكتبت أنا عنه أيضا. هو كان يرسل شعر رأسه طويلا حتى يصل إلى رجليه, فكتبت أن شعره تغار منه كل غانية هندية تود أن يكون لها شعره, وصفته خارجيا فقط وتحدثت عن قصيدة ترجمت من شعره إلى اللغة العربية.
- ما ذا تذكرون من حكايات المربد؟
محمد الحافظ: أذكر مرة أني كنت أتحدث مع أحد الأدباء في المربد وهو عراقي معجب بنزار قباني ويفضله على المتنبي، وقال أحد السائلين كأنه يغريه بي ويعلم اتجاه كل منا أيهما أشعر المتنبي أم نزار، فقلت له أنا هذا السؤال يحتاج إلى ألف سنة يعيشها نزار فإن بقي بعد ذلك شامخا مثل المتنبي فيمكن أن يطرح السؤال, ونزار يومها حي كان يحضر معنا المربد, وقد ألقى قصيدة وأنا يومها موجود قصيدة "نحن كلاب العصر" وكان العراقيون يحتفلون به جدا يحبونه جدا, وهو نثره أحسن من شعره. حضرت مرة المربد وافتتحه هو فقال "لا توجد مدينة تدخل وتخرج من معاطف الشعراء تتبرك بهم كما يتبرك بالصالحين والأولياء إلا بغداد" هذا من جملة كلام قاله، وأنا شخصيا لم ألقه. هناك مرة في المربد كان يجلس نزار قباني وسعاد الصباح ومجموعة معهم في مكان واحد يتحدثون، فجاءني بعض زملائي من الموريتانيين وقال لي تعال نأخذ صورة مع نزار وسعاد الصباح. قلت له أنا لا أجد في نفسي نقصا في شخصيتي حتى أكمله بصورة مع هؤلاء, أنا إن كنت لا بد ملتقطا صورة ألتقطها مع غيلان والمتنبي. وهناك مرة واحد يقال له خليل الخوري والعرب للأسف شعراؤهم كثير فيهم شرب الخمر, قال لي الخوري هذا يا أخي أنت لا تشرب الخمر, قلت له لا، لا أشرب أبدا, قال لن تكون شاعرا, قلت له قرائحنا لا تحتاج إلى سماد, أنتم تسمدون قرائحكم لتنتج لأن الأرض غير خصبة, ونحن أرضنا خصبة, أرض عذاة، والأرض العذاة هي الأرض البعيدة من الأنهار وعادة تكون قليلة الوباء.
بأرض هجان الترب وسمية الثرى عذاة نأت عنها الملوحة والبحر.
الأرض التي لا تسقى إلا بماء المطر.
هذا من الحكايات, قلت لك أحدهم قال أيهما أشعر نزار أم المتنبي، فقال صاحبي إن نزار اتخذ المرأة طريقة إلى الثورة، فقلت له لقد فعل المتنبي قال :
محب كنى بالبيض عن مرهفاته وفي الحسن في أنيابهن عن الصقل
فقال إن نزار تحدث عن غزو الفضاء فقلت له وكذلك المتنبي قال في قصيدة يمدح بها كافور:
يرى النجوم بعيني من يساورها كأنها سلب في كف مسلوب
هل يكون سلب إلا بعد غزو بل بعد انتصار في هذا الغزو، أليست النجوم أجراما فضائية. قال لي أنا أحبه لأنه هجا السادات رئيس مصر في قصيدة, هذا كان في أواخر السبعينيات أو بداية الثمانينات. كان نزار قد كتب :
سرقوا منا الزمان العربي. سرقوا فاطمة الزهراء من بيت النبي.
وقال هو هجا السادات وأنه أحبه لذلك. قلت له ألا تحب إلا من هجا السادات, أنا لا أحب هجاء السادات وأعتبر أنه رجل عربي مسلم أخطأ ولكن إذا كنت لا تستبشر إلا بهجاء السادات فاسمع إلى قول المتنبي فيه. قال في السادات قلت نعم. يقول:
لا يدرك المجد إلا سيد فطن لما يشق على السادات فعال
فبهت الحاضرون، وقالوا أهذا للمتنبي، قلت لهم خذوا القصيدة:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
فاستحضرنا ديوان المتنبي، فإذا بي القصيدة فيه, هذا من طرائف قصصنا في المربد. ومن أطرف ما في ذلك أن رجلا من فلسطين يعمل في الكويت يسمى عبد الله السيت وكان جسيما جدا, كان رجلا صاحب فكاهة وألقيت بحضوره قصيدة من 250 بيتا، فقال لي يا بني أنت شاعر عظيم جدا ولكن ما فائدة الشعر؟ فقلت له مثل بعض الشاي الصيني يستعمل لتخفيف الوزن, وكان وزن الرجل كبيرا. والغريب أن هذا الرجل كان واسع الصدر. هذه الكلمة التي كنت أظن أنها تغضبه لم تغضبه وأصر على أن أعمل معه في الكويت, وجئت هنا على ذلك السبيل ولكن الوالد رحمه الله لم يقبل سفري إلى هناك, والغريب أن بعد ذلك بفترة احتل العراق الكويت.
بعد فترة العراق، أقمتم في السعودية كيف كانت تلك الإقامة؟
محمد الحافظ: هما فترتان متداخلتان لأني أنا جئت إلى العراق ثم ذهبت إلى السعودية وعدت أيضا إلى العراق, والسعودية أقمت فيها سنة أو حوالي سنتين, وهذه الأرض أعطاها الله سبحانه وتعالى أنها أرض مهد الإسلام وأنها يستعشر المرء فيها روحانية عجيبة جدا في مكة والمدينة ويشعر أن كل مكان منها فيه عطر من النبوة ومن الصحابة والتابعين. أنا جلست في مكة شهرا تاما، هذا الشهر كان مثل 10 سنوات. وأنا وجدت أحد الطلاب إذ ذاك يحضر دكتوراه في الحديث, وقد جمع من مكتبات الدنيا ما هو موجود في كتب الحديث. جاء ببعض المخطوطات النادرة وكان هذا الرجل يحقق كتاب لأبي بكر بن العربي اسمه قريب من هذا "نور القبس على موطأ مالك بن أنس" وجمع من المكتبة الظاهرية في دمشق ومن مكتبات الهند ومكتبات باكستان ومن مكتبات تركيا وابريطانيا وغير هذا الدول المخطوطات المصورة والكتب. فعكفت أنا على هذه الكتب، وبعض الكتب المؤلفة في الحديث. هناك كتابان حديثان شدا انتباهي هما كتاب لرجل يسمى عجاج الخطيب بعنوان السنة قبل التدوين, وكتاب للعلامة السوري الدكتور مصطفى السباعي "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" وهذا الكتاب عندما أراد أن يرد على واحد اسمه أبو ريه وهو رجل مشئوم كان يريد أن يسب سيدنا أبو هريرة. فرد عليه. وكان الرجل هذا استشكل كيف أبو هريرة متأخر إسلامه ويروي هذا الكم الهائل من الأحاديث, فقال له السباعي إن ما يحفظه الشنقيطي يقصد محمد محمود ولد اتلاميد من الشعر العربي أكثر مما يحفظه أبو هريرة من الحديث, فهذا دليل دامغ. وأنا لا حظت شيئا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقال إنه جمع لأبي هريرة هكذا من الهواء والفيزيائيون يقولون إن كل كلام تحدثه الإنسان موجود في الهواء. فلعل النبي صلى الله عليه وسلم كيف له ذلك, وفي الحديث أنه دعا له أيضا. فعلى كل حالة فترتي في السعودية قرأت فيها كما لا يتناهى من كتب الحديث, وأصبح للحديث ما للشعر في قلبي, وهذا لم يكن لي لولا بركة مكة, ومرة كنت في الإمارات العربية وكان لي صديق وكان يذهب إلى عمله فقلت له اعطني ديوان شعر أتعلل به, قال لي ليس عندي إلا مجلة هنالك مجلة متخصصة في الإمارات في الحديث. فوجدت دراسة لابن حجر في هذه المجلة رسالة يحلل فيها حديث ، فلما جاءني قال أو جدت شعرا، قلت نعم وجدت أحسن من الشعر إن دراسة ابن احجر لهذا الحديث وعلله الخفية وجدت فيها سكرة ونشوة لا توجد في شعر أبي الطيب المتنبي.
لا يدرك المجد إلا سيد فطن لما يشق على السادات فعال
لا يقرأ الشاعر الذي يعيش في بيته بين الكتب التي ينفق كل ماله في سبيل جلبها, لا يقرأ شعر غيلان إلا فاضت عبرته, مرة ذهب يستجلب لأهله بعض الحاجات المطبخية فصادفه بائع الكتب في الطريق اشترى بالمبلغ الذي بجيبه كتبا وعاد إلى أهله بغير ما ينتظرون.
إذا زرته يتنقل بك بين مختلف العلوم في لحظة واحدة، يحدثك عن ابن تيمة وعن طه حسين ويقوم ليريك كلاما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، ثم يستشهد لك بشعر الجاهليين، ويعطيك رأيه في أدونيس.
"الأخبار" أجرت معه حوارا شاملا مطولا من أطول اللقاءات مع ولد أحمدو تسعى من خلاله إلى تقديم الكثير من أخبار هذا الشاعر إلى القراء والمهتمين, وسينشر في حلقات.
(الحلقة الأولى)
نتشرف بكم، ونسأل عن كيف كانت نشأتكم، وارتباطكم بالثقافة والمعرفة داخل بيئتكم الاجتماعية؟
محمد الحافظ: أنا أشكركم لإتاحة الفرصة لهذا الحديث, ولو أن الحديث عن النفس يصدق فيه قول أحد الفلاسفة الأوروبيين" إن أسمج الحق حديث المرء عن نفسه" فهو حتى ولو كان حقا يكون سمجا. فما بلك حفظنا الله وإياك إذا كان كذبا.
على كل، أنا نشأت في بيئة مليئة بالعلماء والأدباء، أغلب علمائها أدباء وشعراء ورواة وظرفاء. كانت تلك البيئة في ضواحي مدينة "بو تلميت" في مكان قريب من ما يسمى الآن "علب آدرس" ووقتها كنا نكون حول بئرها.
ما هو انطباعكم أنتم الآن عن هذه البيئة؟
أنا من وجهة نظري أن الإنسان دائما يصدق عليه قول الشاعر عمرو بن أبي ربيعة "حسن في كل عين من تود" ولكن أنا الآن راض عن أغلب ما فيها. لأني وجدت علماء صلحاء متقنين للغة العربية ومتسامحين. وجدت فيها تعايشا بين التصوف بطرقه المتعددة وبين من لم يتصوف. وكان فينا أشخاص يشبه أن يكونوا من المتشددين تقريبا في البدع وما شاكلها. ولكنهم متعايشون مع الصوفية تعايشا سلميا ليس فيه أي تناقض. فأنا أرى أن هؤلاء كانوا من الحكمة والعلم والفضل بحيث لم يقع بينهم أي تناقض، ولا أي شيء. أذكر من مشايخي العلامة محمدن ولد الطلبة ولد أحمدو فال. الذي قيل في أبيه لمرابط ولد أحمدو فال " ماكيفو أحد اسو منه** في امتثال الكال الفعال**واجتناب الناهي عنه" كان خلقه مدرسة أخلاقية تحتذى. وكنت أرى فيه أو أشبهه - ولا أزكي على الله أحدا - بما قالت عائشة عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " كان خلقه القرءآن" ودرست على العلامة الدنبجه ولد معاوي وهذا قريب لي جدا. أبوه عم والدتي وهو أستاذي الأساسي في النحو. درست عليه طرة بن بونه. ودرست عليه أيضا "الشعراء الستة الجاهليين" وإن كنت قد درست شعر زهير على العلامة محمدن ولد أحمدو فال. ودرست عليه أيضا بعض النحو. وعادة تتخلل الدراسة هنا وهناك. فنحن على كل حال كنا أحياء. أحوية، والحواء مجموعة من بيوت العرب. كنا أحوية تلتئم مرة ومرة تكون لكل منها بئره التي يقطن فيها. كما قال تميم بن أبي بن مقبر العجلاني:
قوم محاضرهم شتى ويجمعهم ** دوم الإياب وفاثور إذا انتجعوا.
المكان الذي تكون فيه النجعة تكون فيه البقول والمياه، فلذا تجتمع الناس عنده وتفترق إذا فقدت هذه الأشياء.
- بدايتكم مع الشعر كيف تستذكرونها؟
محمد الحافظ: منذ نشأتي وأنا مرتبط بالشعر. أذكر أني كنت كلما سمعت قصيدة جميلة تمنيت لو قلت مثلها. وكنت كلما رأيت منظرا مؤثرا أجد حزازة في نفسي على أني لم أقل شعرا جميلا يتناسب مع المنظر. أذكر أني كلما قرأت لغيلان تفيض دموعي إلى الآن، وعادة إذا أردت أن أقرء القرآن أقرء شعر غيلان أولا حتى إذا فاضت دمعتي أخذت القرءان حتى أكون متباكيا في القرءان.
- ما الذي يثير هذه الدمعة خلال قراءتكم لغيلان؟ ما هو السر برأيكم؟
محمد الحافظ: لأن بيئة الشاعر غيلان تشبه بيئتنا لدرجة أن ناقة غيلان التي تسمى "صيدح" أصبح اسمها وصفا لكل ناقة تركب عندنا. وهذا من تأثير غيلان فينا. ومرة نازلت شاعرا عراقيا قال يمازحني: إن الشناقطة الموريتانيين طيبون، ولكنهم يلبسون عرائسهم ثياب الحداد. قلت له وأنتم تلبسونهم الأكفان.- لأنهم يلبسونهن ثيابا بيضاء -. ونحن هذا التقليد الذي نصنعه هو تقليد أندلسي . وقال فيه غيلان:
وليل كجلباب العروس ادرعته ** بأربعة والشخص في العين واحد
أحم علافي وأبيض صــــارم ** وأعيش مهري وأبيض ماجد
- هل هناك شاعر آخر يحدث لكم معه انفعال معين مثل ما يحصل مع غيلان؟
محمد الحافظ: طبعا، هنالك المتنبي. أبو الطيب لا أستعبر بسببه. ولكن حبي لغيلان حب وجداني متأصل. وحبي للمتنبي عقلي، هو حب تأثر. وأنا أجمعهما عادة في فطور منهما أسميه "التمر بالزبد"
- أيهما التمر، وأيهما الزبد؟
محمد الحافظ: لك أن تختار!! حتى أني لا أميز بين أيهما التمر وأيهما الزبد, كلهما يمكن أن يكون تمرا ويمكن أن يكون زبدا, أردت أولا أن أقول لك إن الزبد هو غيلان، والتمر المتنبي. وعلى كل، التمر بزبد، كلام أصلا لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال "إذا وافق الحق الهوى فذلك التمر بالزبد" وأنا نظمت هذا في قصيدة لي:
وإن وافق الحق الهوى ولقلما قد اتفقا يوما، هما التمر والزبد
جئت بهذه الزيادة التي لها معنى تعليلي.
- بعد المحظرة التقليدية، انتقلتم إلى معهد أبو تلميت، كيف تستذكرون أيامكم في تلك المؤسسة النظامية؟
محمد الحافظ: لن أبرح المحظرة حتى أقول إن شعري نشأ في المحظرة, ومعهد أبي تلميت أنا أعتقد أنه لو كان أتيح له أن ترعاه الدولة في تلك الأيام رعاية حقيقية كان يمكن أن ينافس الأزهر في أيامه والزيتونه في أيامها, كان هناك علية القوم من رجال الثقافة, كان معنا العلامة محمد يحي ولد عدود رحمه الله ورضي عنه ونفعنا ببركته, كان رجلا صالحا وعالما لا تكدره الدلاء في النحو والفقه وفي كل شيء. وكان هناك المختار ولد حامدن أنا لم أدركه مدرسا هناك، كان قد انتقل، وكان هناك محمد عالي لم أدركه مدرسا, ولكني أدركته وهو في بوتلميت فكنت أختلف إليه أحيانا أقرء وأدرس عليه بعض الأبواب من الألفية التماسا لبركته, كنت ترى النور يشع من وجهه كأن وجهه يقطر نورا. كان من العلماء الربانيين، الصالحين فيما يظهر لي ولا أزكي على الله أحدا.
- كانت أيامكم في معهد أبو تلميت، والسنوات التي أعقبت ذالك، فترة الانتماءات الأيديولوجية، وظهور التيارات الفكرية، أين كنتم أنتم داخل ذلك التصنيف؟
محمد الحافظ: هذه الفترة بالذات كانت فيها بدايتي مع الشعر. لأني قلت الشعر تقريبا سنة 1969 أو نحو ذلك, وجئت إلى المعهد سنة 71 وكتبت قصيدة عن الأصالة الموريتانية, وكانت الفترة إذ ذاك في بداية تفكير موريتانيا في الانضمام إلى الجامعة العربية, ونظمت هنالك مسابقات، تلك المسابقة التي نجح فيها إسماعيل ولد محمد يحظيه بقصيدته:
يامورتان لك الكلاءة والظفر** فابقي إلى جنب العروبة لا مفر
أنا نجحت فيها على مستوى مؤسسة المعهد بقصيدة نونية من بحر الكامل لا أتذكر منها شيئا, ولكنها جاءت هي القصيدة الأولى.
أما فيما يتعلق بالاديولوجيات، فأنا يا أخي دفعت ثمن ذلك غاليا, لأني الآن يتحاماني الناس, وبالمناسبة نحن نستخدم كلمة "تحاماه الناس في غير موضعها" تحاماه الناس معناها: تركوه, رجل يتحاماه الناس معناها: يتحاشونه, أنا نازلت الشيوعية, فأنا أول شيء ضد الشيوعية,هذا هو مذهبي, باكرا أخذني بعض الشيوعيين وقرءوا علي صيحة المظلوم فوجدت الشيوعية هي أخطر شيء على الدين والعروبة، وعلى كل شيء, فقررت أني عدو الشيوعية, وما أزال عدوا لها, بالنسبة للفرقاء الآخرين, وجدتني أتقاطع معهم ولا أنسجم معهم. مثلا فيما يتعلق بالناصرييين، أنا عندي ميل عروبي ولكني أجد فيهم سطحية. وأجد أن معارفهم الدينية قليلة، وارتباطهم بالثقافة الإسلامية ضعيف, أما الإخوان المسلمون فعندهم ارتباط بالثقافة الإسلامية، ولكن أنا وجداني صوفي, ولم أنسجم معهم لهذه الناحية, لأني أنا صوفي وكنت أقول لهم: إن التصوف ثلث الإسلام من ناحية ونصفه من ناحية, ثلثه من حيث حديث جبريل "أن تعبد الله كأنك تراه" ونصفه من حيث حديث أركان الاسلام, وتيار البعث في ذلك الوقت لم يكن قد تقرر. البعث في ذلك الوقت كنا نسميه على أنه نوع من الشيوعية عليه الهيموكلوبين من العروبة, مع أني في ما بعد ذلك كرمني أهل بغداد, وأصبحوا يبعثون إلي كل سنة لأحضر المربد، ولكن ليس عن طريق الايديولوجيا. فقط لأن صدام رحمه الله كان يحب الأدب ويحترمه, أرادوا مرة أن أكون بعثيا, فقلت لهم إنكم تريدونني بثمن، وأنا أعطيكم نفسي مجانا, أنتم تحبون العروبة, وأنا أحب العروبة.
- هل حصل أن أقمتم في العراق؟
محمد الحافظ: حضرت مهرجان المربد مرات، وأقمت أيضا هناك فترة.
كيف كانت فترة إقامتكم هذه بالعراق؟
محمد الحافظ: هي من أخصب الفترات في حياتي, أنا أشبه نفسي فيها بتوفيق الحكيم عندما جاء إلى باريس ليدرس الحقوق فلم يدرسها، ولكنها تخصص في الأدب وخاصة المسرحيات, فأنا جئت إلى بغداد لأسجل فيها، وفاتني التسجيل فجعلت أختلف إلى المكتبات وأشتري الكتب، وعندما أقرأها أردها إلى المكتبات وأخصم شيئا منها فأشتري به كتبا أخرى, وأنا أشبه الأديب دائما ب"عر انتك تاره " لكي يؤكلها، لتغلولب رقبته, فالأديب دائما يقرأ لتزداد ثقافته وتغلولب رقبته في المعرفة, وهذا الكلام أظنه لرامبو شاعر إسباني.
- زمنكم في العراق، هل التقيت بمشاهير الأدباء هناك؟
محمد الحافظ: لقيت البياتي والسياب وجدته مات من زمان, وعبد الوهاب البياتي أمر أحد الذين يعملون معه في مجلة وعي العمال أن يجري معي مقابلة، وأجراها معي، والتقيت بالبيات مرة بعد تلك المرة أو مرتين.
- البياتي كيف هو عندك؟
محمد الحافظ: هم يعتبرونه مقدسا عندهم، يعتبرونه شاعرا عظيما. وأنا لا حظت أنه مفكر جمالي, أنا أقول إن أودونيس وعبد الوهاب البياتي مفكران جماليان. يعني كلاهما فيلسوف يتحدث عن الحضارة والأساطير بأسلوب يحاول أن يكون شعرا, ولكن البياتي أقوى من الناحية العروضية، والناحية الشعرية. ربما يكون خيال أودنيس أقوى، ولكن البياتي وجدت له قصائد يقلد بها المعري لا بأس بها من الناحية العمودية. وطبعا، التقيت هناك بأدباء آخرين عديدين.
- كيف كان المربد وأجواء اجتماع الشعراء هناك؟
محمد الحافظ: كنا نلتقي تقريبا بحوالي 3آلاف شاعر وهنالك شاعر أمريكي مرة ألقيت قصيدة 250 بيتا ومع أنه لا يفقه كلمة من اللغة العربية، وأنا لا أفقه اللغة الانكليزية. أحبني حبا شديدا وعمل مني صورا، وكتب عني هنالك.
مالذي كتب عنك في أمريكا، ماذا قال؟
محمد الحافظ: لم أطلع على ما كتب, لكنه هو أخبرني أنه نشر عني, وكتبت أنا عنه أيضا. هو كان يرسل شعر رأسه طويلا حتى يصل إلى رجليه, فكتبت أن شعره تغار منه كل غانية هندية تود أن يكون لها شعره, وصفته خارجيا فقط وتحدثت عن قصيدة ترجمت من شعره إلى اللغة العربية.
- ما ذا تذكرون من حكايات المربد؟
محمد الحافظ: أذكر مرة أني كنت أتحدث مع أحد الأدباء في المربد وهو عراقي معجب بنزار قباني ويفضله على المتنبي، وقال أحد السائلين كأنه يغريه بي ويعلم اتجاه كل منا أيهما أشعر المتنبي أم نزار، فقلت له أنا هذا السؤال يحتاج إلى ألف سنة يعيشها نزار فإن بقي بعد ذلك شامخا مثل المتنبي فيمكن أن يطرح السؤال, ونزار يومها حي كان يحضر معنا المربد, وقد ألقى قصيدة وأنا يومها موجود قصيدة "نحن كلاب العصر" وكان العراقيون يحتفلون به جدا يحبونه جدا, وهو نثره أحسن من شعره. حضرت مرة المربد وافتتحه هو فقال "لا توجد مدينة تدخل وتخرج من معاطف الشعراء تتبرك بهم كما يتبرك بالصالحين والأولياء إلا بغداد" هذا من جملة كلام قاله، وأنا شخصيا لم ألقه. هناك مرة في المربد كان يجلس نزار قباني وسعاد الصباح ومجموعة معهم في مكان واحد يتحدثون، فجاءني بعض زملائي من الموريتانيين وقال لي تعال نأخذ صورة مع نزار وسعاد الصباح. قلت له أنا لا أجد في نفسي نقصا في شخصيتي حتى أكمله بصورة مع هؤلاء, أنا إن كنت لا بد ملتقطا صورة ألتقطها مع غيلان والمتنبي. وهناك مرة واحد يقال له خليل الخوري والعرب للأسف شعراؤهم كثير فيهم شرب الخمر, قال لي الخوري هذا يا أخي أنت لا تشرب الخمر, قلت له لا، لا أشرب أبدا, قال لن تكون شاعرا, قلت له قرائحنا لا تحتاج إلى سماد, أنتم تسمدون قرائحكم لتنتج لأن الأرض غير خصبة, ونحن أرضنا خصبة, أرض عذاة، والأرض العذاة هي الأرض البعيدة من الأنهار وعادة تكون قليلة الوباء.
بأرض هجان الترب وسمية الثرى عذاة نأت عنها الملوحة والبحر.
الأرض التي لا تسقى إلا بماء المطر.
هذا من الحكايات, قلت لك أحدهم قال أيهما أشعر نزار أم المتنبي، فقال صاحبي إن نزار اتخذ المرأة طريقة إلى الثورة، فقلت له لقد فعل المتنبي قال :
محب كنى بالبيض عن مرهفاته وفي الحسن في أنيابهن عن الصقل
فقال إن نزار تحدث عن غزو الفضاء فقلت له وكذلك المتنبي قال في قصيدة يمدح بها كافور:
يرى النجوم بعيني من يساورها كأنها سلب في كف مسلوب
هل يكون سلب إلا بعد غزو بل بعد انتصار في هذا الغزو، أليست النجوم أجراما فضائية. قال لي أنا أحبه لأنه هجا السادات رئيس مصر في قصيدة, هذا كان في أواخر السبعينيات أو بداية الثمانينات. كان نزار قد كتب :
سرقوا منا الزمان العربي. سرقوا فاطمة الزهراء من بيت النبي.
وقال هو هجا السادات وأنه أحبه لذلك. قلت له ألا تحب إلا من هجا السادات, أنا لا أحب هجاء السادات وأعتبر أنه رجل عربي مسلم أخطأ ولكن إذا كنت لا تستبشر إلا بهجاء السادات فاسمع إلى قول المتنبي فيه. قال في السادات قلت نعم. يقول:
لا يدرك المجد إلا سيد فطن لما يشق على السادات فعال
فبهت الحاضرون، وقالوا أهذا للمتنبي، قلت لهم خذوا القصيدة:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
فاستحضرنا ديوان المتنبي، فإذا بي القصيدة فيه, هذا من طرائف قصصنا في المربد. ومن أطرف ما في ذلك أن رجلا من فلسطين يعمل في الكويت يسمى عبد الله السيت وكان جسيما جدا, كان رجلا صاحب فكاهة وألقيت بحضوره قصيدة من 250 بيتا، فقال لي يا بني أنت شاعر عظيم جدا ولكن ما فائدة الشعر؟ فقلت له مثل بعض الشاي الصيني يستعمل لتخفيف الوزن, وكان وزن الرجل كبيرا. والغريب أن هذا الرجل كان واسع الصدر. هذه الكلمة التي كنت أظن أنها تغضبه لم تغضبه وأصر على أن أعمل معه في الكويت, وجئت هنا على ذلك السبيل ولكن الوالد رحمه الله لم يقبل سفري إلى هناك, والغريب أن بعد ذلك بفترة احتل العراق الكويت.
بعد فترة العراق، أقمتم في السعودية كيف كانت تلك الإقامة؟
محمد الحافظ: هما فترتان متداخلتان لأني أنا جئت إلى العراق ثم ذهبت إلى السعودية وعدت أيضا إلى العراق, والسعودية أقمت فيها سنة أو حوالي سنتين, وهذه الأرض أعطاها الله سبحانه وتعالى أنها أرض مهد الإسلام وأنها يستعشر المرء فيها روحانية عجيبة جدا في مكة والمدينة ويشعر أن كل مكان منها فيه عطر من النبوة ومن الصحابة والتابعين. أنا جلست في مكة شهرا تاما، هذا الشهر كان مثل 10 سنوات. وأنا وجدت أحد الطلاب إذ ذاك يحضر دكتوراه في الحديث, وقد جمع من مكتبات الدنيا ما هو موجود في كتب الحديث. جاء ببعض المخطوطات النادرة وكان هذا الرجل يحقق كتاب لأبي بكر بن العربي اسمه قريب من هذا "نور القبس على موطأ مالك بن أنس" وجمع من المكتبة الظاهرية في دمشق ومن مكتبات الهند ومكتبات باكستان ومن مكتبات تركيا وابريطانيا وغير هذا الدول المخطوطات المصورة والكتب. فعكفت أنا على هذه الكتب، وبعض الكتب المؤلفة في الحديث. هناك كتابان حديثان شدا انتباهي هما كتاب لرجل يسمى عجاج الخطيب بعنوان السنة قبل التدوين, وكتاب للعلامة السوري الدكتور مصطفى السباعي "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" وهذا الكتاب عندما أراد أن يرد على واحد اسمه أبو ريه وهو رجل مشئوم كان يريد أن يسب سيدنا أبو هريرة. فرد عليه. وكان الرجل هذا استشكل كيف أبو هريرة متأخر إسلامه ويروي هذا الكم الهائل من الأحاديث, فقال له السباعي إن ما يحفظه الشنقيطي يقصد محمد محمود ولد اتلاميد من الشعر العربي أكثر مما يحفظه أبو هريرة من الحديث, فهذا دليل دامغ. وأنا لا حظت شيئا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقال إنه جمع لأبي هريرة هكذا من الهواء والفيزيائيون يقولون إن كل كلام تحدثه الإنسان موجود في الهواء. فلعل النبي صلى الله عليه وسلم كيف له ذلك, وفي الحديث أنه دعا له أيضا. فعلى كل حالة فترتي في السعودية قرأت فيها كما لا يتناهى من كتب الحديث, وأصبح للحديث ما للشعر في قلبي, وهذا لم يكن لي لولا بركة مكة, ومرة كنت في الإمارات العربية وكان لي صديق وكان يذهب إلى عمله فقلت له اعطني ديوان شعر أتعلل به, قال لي ليس عندي إلا مجلة هنالك مجلة متخصصة في الإمارات في الحديث. فوجدت دراسة لابن حجر في هذه المجلة رسالة يحلل فيها حديث ، فلما جاءني قال أو جدت شعرا، قلت نعم وجدت أحسن من الشعر إن دراسة ابن احجر لهذا الحديث وعلله الخفية وجدت فيها سكرة ونشوة لا توجد في شعر أبي الطيب المتنبي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق