لم تكن تلميت مجرد نبتة طبيعية في واد عادي ، يقتات منها الحيوان ويتزين ويحيا بها الجماد ، بل كانت أيضا مجالا خصبا لظهور الإنسان وبزوغ فجر الإنسان المتدفق بالعطاء العلمي والحضاري المشهود، فقد شهد تأسيس هذه المدينة محطات صعبة ومتفاوت ، شكلت عودة شيخ الإسلام الإمام الشيخ سيديا الكبير رحمه الله من رحلته العلمية الطويلة الخطوة الأولى على الطريق التأسيس والانطلاقة ، وكان لإستشارته للشيخ عبد الجليل ولد الناه رحمه الله النهاية الحاسمة في تحديد مكان وضع حجر الأساس لما عرفه واصطلح على تسميته لاحقا مدينة بتلميت وقع الحفر وبدء التجمع والتحضر ذالك التحضر الذي أسهم بشكل كبير في صنع الحياة وتحديد ملامحها على المستوى المحلي والإقليمي ، وكان ذالك المكان بحق مصدر اشعاع ثقافي وعلمي وسياسي قدم للأمة الشنقيطية الشيء الكثير، وعمل أهلها على نشر السلم والاستقرار ورفع الظلم ومنع سلب حقوق الضعفاء من خلال الفتاوى الشرعية التي أثمرت اخبرا معاهدة النصارى الفرنسيين آنذاك على يد حجة الإسلام الشيخ سيد يا باب ، بهذه المعاهدة آمن الناس في أرواحهم وأموالهم دون إفراط ولا تفريط في الدين والمعتقد وهكذا لم يكن عطاء هذه المدينة وأهلها ليتوقف عند هذا الحد إذ قاد أبنائها للوطن شرف نيل الاستقلال وتأسيس الدولة الحديثة بفعل دهاء وذكاء وحنكة الأب الأستاذ المختار ولد داداه وبعد نحو 30 سنة من توقف المقاومة الوطنية المسلحة ، تلك المقاومة المتواضعة في عتادها وأساليبها القتالية الشجاعة في أدائها ....
وقدم معهد بتلميت للدراسات الإسلامية (الثانوية الحالية) للوطن نخبة الأطر التي قادت مرحلة تأسيس وبناء الدولة ، وكان بحق قلعة علمية شامخة ومصدر عطاء علمي لاينضب ، ومما عرف عن أبناء هذه المدينة أنهم من المخلصين الأوفياء للوطن المؤمنين بمفهوم الدولة الساعين دوما إلى وطن العدالة والشفافية في الإدارة والتسيير ، في وقت عزت فيه هذه المثل والصفات ، وحين تحالف الكل وتعاهد على تدمير هذا الوطن وإنهائه ، قاد أبنائها المعارضة الوطنية الأمينة على الوطن ومصالحة وقالوا: "لا" في عصر ندرت فيه "لا" وعزت ، ودفعوا الثمن الكبير مقابل ذلك وانتظروا وما بدلوا تبديلا.......وكانت هذه المعارضة مدرسة لتخريج الأحزاب والقادة سياسيين للوطن بيد أن كل ما ذكر من تاريخ هذه المدينة وتميز أبنائها لا نذكر هنا عجبا وبطرا ورئاء الناس ، وإنما نستحضره لأجل نعلمه ولحاجة في نفس يعقوب مفادها : أن واقع مدينتنا وحاضرها اليوم بناقض بكل صدق وآسف حقيقة تميز وتفوق أبنائها وإخلاصهم المذكور .
إن واقع بتلميت يرثى له اليوم وإن كل من قرأ عنها وعن أهلها وسمع عنها ورآها اليوم : لاشك سيعزي فيها ويكبر عليها أربعا لما آل إليه حالها .
بتلميت اليوم مدينة أشباح مدينة أطلال جوفت من داخلها وأهملت ، فكم من منزل وكم من حي بأكمله هجر، نزح السكان الأصليين بأغلبهم إلى أحياء وقريات كرتونية لا تقدم ولا تأخر انعكست سلبا وأضرت فعلا بالمدينة الأم ومستقبلها .
هذه المدينة كل ما تجولت في شوارعها الممتلئة بالتاريخ أصبت بالحيرة وأنت أمام ساكنة وأوجه جديدة لاهم لهم من إصلاحها أو ضياعها الشيء الكبير ، يحدث ذلك في وقت نرى الكل يعمر مدنه ويطورها ، وربما في قادم الأيام نرى مدينة أنبيكت لحواش الحديثة النشأة أحسن حالا ، آخر بلايا وكوارث مدينة بتلميت تقديم مفاتيحها هدية ، نعم هدية وشر البلية ما كان مضحكا .........
لا يوجد مبررا لما عانت وتعاني هذه المدينة الوديعة أعلم أن هناك أسبابا موضوعية خارج عن إرادتنا دبرت بليل ليكون حالها على ما هو عليه ابتداء من سياسات نظام ولد الطايع ((فرق تسد)) والتي دعمت بشكل كبير إنشاء القريات ومضايقة وعزل كل من يطمح ويعتز بأمجاده ، وصولا إلى محاولات منع وإجهاض مشروع التطوير العمراني الذي تعهدت به قطر الشقيقة ، إلا أن كل ذلك لا يبررما وصلنا إليه. وعلينا جميعا أن نتذكر ما يقع على أهل هذه المدينة من مسؤوليات جسام لعل الذكرى تحمل إلى الضمائر النائم ، وتنفذ القلوب الفارقة في اللامبالاة واللانتماء ، وتنفض صد البلادة عن العقول المبدعة الواثبة الطامحة إلى غد أفضل يعلو فيه شأن بتلميت ويعاد إلى واجهة المدن المتحضر قولا وعملا .
لن يأتي ذلك صدفة ولا مجانا بل بالعمل بتغيير العقليات بتغيير الواقع (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)).
إخواني أخواتي مدينتنا تنادينا تستغيثنا : فهلم نجيب نلبي النداء
فليحفظك الله يا ارض عزيزة وغالية وإلى موعد قادم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق