إعلان

إعلان

الاثنين، 10 سبتمبر 2012

"الشنافي"..الأب الروحي لطريق الأمل وأحد أبرز اللسانيين في العالم


"عبقري الصحراء" يجيد 8 لغات..ويعتبر مرجعاً في تاريخ الشعوب    

الكاتب يعقوب باهداه

المرحوم محمد ولد مولود ظل مرجعا في التاريخ العالمي 
بعمامته السوداء المنسدلة على منكبيه وشاربه الذي غزاه الشيب ونظراته المحدقة رحل فجر الخميس، البروفسير العلامة محمد ولد مولود ولد داداه (المعروف بالشنافي)، تاركا وراءه ثروة كبيرة من الإنتاج العلمي، ومئات الطلبة و المعجبين. 
  فالرجل عاش حياة امتدت 92 سنة، كانت مليئة بالعطاء، جمع علوم شتى، ولغات من مختلف جهات الأرض، وخبرة سياسية وإدارية وتاريخية فريدة

ولد في نواحي بتلميت عام 1920 أو 1922، وهو أحد أوائل الموريتانيين، الذين التحقوا بالتعليم الرسمي في ظل الاستعمار الفرنسي؛ وحين كان طالباً في المدرسة رقم 1 في بتلميت، كتب الحاكم الإداري الفرنسي إلى العاصمة (سان لويس) يتحدث عن فتى نابغة ظهر في المدرسة يجب أن يحسب له حسابه، وهو حفيد باب ولد الشيخ سيديا، العالم البارز والزعيم السياسي المعروف. 
هو أول موريتاني يحصل على شهادة الباكلوريا (الثانوية العامة)، درس القانون والعلوم السياسية واللغات في فرنسا، و رافق ابن عمه الرئيس الراحل المختار ولد داداه في مدرسة  أبناء الأعيان بسان لويس؛ لكن محمد كان الأسبق في الدراسة بفرنسا، فوجده المختار وقد أصبح عارفاً بالمجتمع الفرنسي والأوربي. 
درس ولد مولود في معهد العلوم السياسية في فرنسا، وكان صديقا لعدد من المفكرين المعروفين ومنهم جان بول سارتر، سيمون ديبفوار ، وكاميس وآخرون. 
يستمد مكانته من معارفه الدينية العميقة، وخبرته في التاريخ، وسعة باعه في لغات العالم الحية والميتة، وخبرته الإدارية التي عرف بها خلال عمله في الإدارة، خصوصا حين كان واليا للحوضين بعيد الاستقلال، فهو صاحب فكرة طريق الأمل الرابط بين نواكشوط و النعمه، وكان أكبر المتحمسين لضم الحوضين وأزواد إلى موريتانيا، نظرا للخصائص الاجتماعية والثقافية المشتركة. 
وفي المجال الدبلوماسي كان ضمن أول وفد يزور مصر ويلتقي جمال عبد الناصر عام 1965، ورئيس الوفد المفاوض في الأمم المتحدة حول قضية الصحراء  بداية الستينيات والذي ضم كلا من مولاي الحسن ولد المختار الحسن واليدالي ولد الشيخ، و اعلي ولد علاف، كما عمل الشنافي مستشارا خاصا للوفد الموريتاني بمحكمة العدل الدولية، و سفيراً في تونس وأثيوبيا، وعمل موظفا دوليا. 
ولج معهد اللغات الشرقية، وكانت تلك بداية رحلة طويلة مع اللغات، فقد أصبح يجيد إضافة إلى العربية التي يتقنها، اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية و الرومانية والفارسية واللاتينية والأمهرية القديمة في أثيوبيا. 
يقول الدكتور حماه ولد السالم أستاذ التاريخ في جامعة نواكشوط، إن ولد مولود ساعدته "ذاكرته الواعية وذكاءه الوقاد ومطالعاته الواسعة فحصل معارف قل من نازعه فيها لا سيما في التاريخ والحضارة والألسنية والإناسة والتراث العربي الإسلامي". 
عرف بمعرفته العميقة بالتاريخ والأنساب، ولم يقتصر على المجال الموريتاني، أو المنطقة المحيطة بها، بل إن باعه كان يمتد بعيدا، فهو أحد الخبراء في سكان منطقة الحبشة (أثيوبيا) و قبائل البشتون التي تعيش بين أفغانستان وباكستان. 
  
عبقري عين السلامة.. 
خلال أحد مواسم لحاق باريس ـ داكار تفاجئ بعض المشاركين التائهين في الصحراء القريبة من بتلميت، وتحديدا قرية عين السلامة (10 كلم شمال بتلميت) بلقاء "عبقري رائع" يسكن بخيمة مجاورة لبيت متواضع يحتوي إحدى أغنى مكتبات العالم، بحسب ما رواه الوزير السابق عبد القادر ولد محمد. 
ويقول الوزير عبد القادر إن أحد أولئك المشاركين في اللحاق كتب في مجلة (لانوفل اوبسرفاتير) تحت عنوان "عبقري في الخلاء"، إنهم التقوا حيث لا يتوقعون بشيخ يتكلم بكل اللغات الحية المعروفة دوليا و ذكروا منها اللغة الفارسية.. كان ذلك بعين السلامة في نهاية تسعينات القرن الماضي. 
فبعد عقود من العمل الإداري، والدبلوماسي، عاد ولد مولود إلى جوار والدته آدية بنت باب ولد الشيخ سيديا، وأقام على رمالها المتحركة، بين مئات الكتب، وليكون قبلة لعدد كبير من الباحثين الموريتانيين والعرب والغربيين، ضمنهم بعض أشهر الباحثين والكتاب والمؤرخين. 
يقول الكاتب والأستاذ الجامعي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية أبو العباس ولد إبراهيم  إن بصمات الشنافي وإرشاداته بقيت ذات أثر عميق في كتابات الجيل الثاني والثالث من المؤرخين الموريتانيين. وملاحظاته باقية في أهم الأعمال التاريخية لكل من نوريس، عبد الودود ولد الشيخ، جيمس ويب، حماه الله ولد السالم و سيدي أحمد ولد أحمد سالم. 
زاره المئات من الطلبة والباحثين، ضمنهم كبار علماء الاجتماع والانتربولوجيا ومنهم شارل ستيوارت، وكونسانت هامس، وبيير بونت، وباحثون موريتانيون كددود ولد عبد الله، وإزيد بيه ولد أحمد محمود وآخرون. فكان مؤطرا لعدد كبير من أطروحات الدكتوراه في موضوعات تاريخية وانتربولوجية، ولم يكن يجد عائقا في أي لغة. 
يقول أبو العباس ولد أبراهام إن الشنافي له الفضل في جعلنا نتعرف على كثير من الإحالات التي وردت في المصادر القديمة. ويضيف انه رغم أن الفقيد كان صاحب ثقافة حديثة إلا أن غوصه في مجال التاريخ جعله بمثابة المؤرخ-المرجع، "حيث بقيت المقابلات التي أجراها المؤرخون معه سلطة تاريخية في حد ذاتها، وهو بهذا كان ينتمي لجيل المؤرخين الأوائل الذي تخصص في جمع التاريخ". 
وحول إقامته في عين السلامة يشير الدكتور أعلي الشيخ ولد أحمد الطلبة الأستاذ الجامعي الموريتاني المقيم في الإمارات العربية المتحدة،  إلى أن من لم يزر مدينة بتلميت العلمية، مدينة البساطة والعلم والطموح كما يصفها ويركب "لاندروفير" إلى عين السلامة حيث كان يسكن المثقف والموسوعة والطود الشامخ محمد ولد مولود فإنه لن يعرف حجم الخدمة التي قام بها هذا الرجل. حسب تعبيره. 
ويضيف أن من زاره في عين السلامة يتفاجئ بكم الكتب والمخطوطات وذلك المذياع الصغير الذي اتخذ من البيت مكانا شرقيا، وذلك الرجل بابتسامته التي تختزل ألم وأمل وطن بكل نقاطه وفواصله
  
عاشق للتاريخ..معتزل للسياسية 
يؤكد الوزير عبد القادر ولد محمد أن الشنافي صاحب شهرة كبيرة من خلال المساهمة في أعمال كثيرة حول التاريخ الموريتاني منها كتاب تاريخ موريتانيا باللغة الفرنسية الذي كان معتمدا حتى عقد السبعينات، و هو كذالك مرجعية معهودة في العديد من المقالات والبحوث حول فضاء البيظان الذي يسميه في حديثه الشيق بـ"أترابنا" مشيرا إلى حدوده الممتدة بين موطن السبويه بالقرب من أكادير في جنوب المغرب إلى نهر صنهاجة في الجنوب حيث تمثل "توجاط" أو "حمة الناموس" (الملاريا) حدا طبيعيا للفضاء و شرقا إلى أزواد الذي يحتفظ في تينبكتو بذاكرة أتراب البيظان. 
ويضيف "في أول زيارة له بعين السلامة في مكتبته الصامدة أمام زحف الرمال، حيث كان يسجل بثبات المؤمنين و بقناعة الزاهدين قناعاته الزكية، لمست روح العلمية الدقيقة التي تسكن الشيخ في معالجته للوقائع التاريخية". 
ويقول عبد القادر إن أعمال الشنافي الفكرية وبحوثه و محاضراته التي سجلت مؤخرا بمركز البحوث حول غرب الصحراء تتسم بالموضوعية و بالدقة و بالروح العلمية، كما انه ساهم بكفاءة في أعمال موسوعة القبائل العربية، وهو عارف بتاريخ العرب و بأيامهم. 
ويضيف إن من خصاله عدم التسرع في النشر، فهو لا يتردد أن يحقق في مسألة معينة طيلة عقود من الزمن و يحتفظ بما يكتب مع التصحيح، و بحوث هذا العملاق و أعماله لم تعرف بعد عند الجمهور و هي من الكنوز الفاخرة. 
عرف بابتعاده عن السياسية، فلم ينتم لتيار، ولم ينشط في حزب سياسي، " وكان له الإسهام الأوفر في الكثير من القرارات الوطنية الهامة في عهد ابن عمه الرئيس المؤسس المختار بن داداه، لكن الشنافي كان يكره الظهور والتظاهر والرياء ولاسيما في الدين" يقول د.حماه الله ولد السالم. ويضيف :" برحيل محمد الشنافي فقدت موريتانيا واحد من بناتها الأوائل ومن أكثرهم كفاءة ووطنية ونزاهة إذ لم يترك خيلا عرابا ولا إبلا صعابا ولا صامتا ولا ناطقا يحمل وزره يوم القيامة". 
يقول عبد القادر ولد محمد إن الشنافي ظاهرة من نوع خاص لم يأت الزمان بمثلها الرجل تعمق في الدراسات الاجتماعية و اللغوية و الأنتروبولجية علي الطريقة الحديثة، و احتفظ في نفس الوقت بشخصية أصيلة مطلعة تمام الاطلاع على أسرار مجتمعة التي يعرف كيف يأخذها من أفواه الرجال و لا من بطون الكتب. 
ويضيف الوزير عبد القادر :"إنه بالفعل من العباقرة الذين أدركوا سر وجود مجتمعنا من أمثال صديقه المختار ابن حامدن رحمه الله، و ينبهر الزائر أو المستمع و هو يستمع إلى الشيخ الشنافي بمنهجه الجذاب حين يتحدث بدقة عن المعلومات التاريخية و الاجتماعية، مازجا بين اللسانيات و تحليل العقليات و تاريخ الأفكار و الوقائع السياسية و الاقتصادية،مدرسة بحد ذاته". 
يقول تلميذه حماه الله ولد السالم الذي رافقه منذ عام 1994، إن الشنافي باح له خلال سنتي 2006 و2007، بأنه بصدد كتابة مذكراته وأنه أودعها مكنون رأيه وتجاربه، لكن القدر اختاره قبل أن يكملها. 
 ويؤكد حماه الله أن إتقان محمد ولد مولود للغة العربية كان جليا محسوسا وبمعجم موحد ودقيق ومتقن وأسلوب سلس رصين، وكان كثيرا ما ينتقد أساليب المحْدثين من الموريتانيين ويعتبرها خليطا متنافرا. 
كان دائما يقول في مقدماته حول الأنساب إن الباحثين عن أنسابهم سيستريحون حين يقتنعون أن الناس كلهم من أدم و حواء,وانه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى". 
يصف سيدي أعمر ولد شيخنا، وهو باحث؛ ومؤلف كتابي "موريتانيا المعاصرة" و "من أعلام ومشاهير خمسينية الاستقلال"، إن الراحل محمد ولد مولود ولد داداه،  كان بحق مؤرخا عظيما وباحثا فذا، يملك رؤية إستراتيجية عميقة ووعيا تاريخيا نادرا. 
ويضيف :"لقد كان رحمه الله يحمل مشروع موريتانيا الكبرى في فكره ووعيه، لقد عرفته محبا للمعرفة، مقدرا للبحث يغمر زواره بموفور أخلاقه وعلمه وفضله". 
اليوم عاد الشنافي ليس إلى عين السلامة التي غادرها بعد التفاتة رسمية نحوه من الدولة عام 2006، بل يعود إلى مثواه البرزخي في رمال "البعلاتية" شمال بتلميت حيث يرقد والداه؛ و أجداده، وأيضا رفيقه المختار ولد داده أب الأمة الموريتانية، إلى جانب عدد كبير ممن تركوا بصماتهم في تاريخ موريتانيا الحديث.

هناك تعليقان (2):

  1. في سنة 1999 كنت أدير مشروعا فى احدى جزر الكاناري كان على الطريق الرابط بين مكان العمل و الاقامة يقطن رجل من أصول أربية لاكن من لا يعرفه يحسبه مجنون أو مدمن على الكحول وكان ذالك ظني طبعا.
    ذات يوم حضرت لحفل فى مقر البلدية ففاجئني من كنت أحسبه مجنون يفتتخ الحفل فسألت عنه أحد المسؤولين فرد علي ألا تعرفه إنه ألبرت إنه فيلسوف أتى إلى الجزيرة من 25 سنة.
    بعد نهاية الحفل قام المسؤول بتقديم كل منا للآخرفبادر عند سماعه مورتانيا أتعرف عين السلامة فحسبت أنه ظن أني من تانزانيا فأجبته لا لا أنا مورتانى فأجابني هل تعرف محمد ولد مولود قلت لا نظرالى مرافقي وقال صاحبك ليس مورتانيا كيف لا تعرف محمد ولد مولود ولد داداه وتقول أنك مورتاني فأستدركت الموقف وأجبته أعرف أهل داداه لكن لاأعرف هذا الشخص فبدأ الرجل بالحديث عنه حتى قلت فى نفسى ليته سكت وخجلت لحالى كيف يكون بيننا شخص كهذا الرجل وأنا لاأعرف عنه شئ.
    كتب الفيلسوف ألبرت كلمات على بطاقة صغيرة وقال لي لو قدر لك أن أن تزور ولد داداه أعطه إياها وعند الوداع نظر إلي نظرة ترجمتها في نفسي أن جهل الأعيان مجرحة.
    إحتفظت بالرسالة و عقدت العزم أن تكون زيارة ولد داداه فى عين السلامة أول ما أقوم به عند عودتى.
    في صيف 2002 عدت إللى البلاد و ذهبت مباشرة إلى عين السلام ومع أني كنت قد عرفت الكثير من ما لم أكن أعرف عن ولد داداه في كل تلك الفترة لكن ليس من رئى كمن سمع.
    رحم الله فقيد الامة وألهم ذويه الصبر والسلوان و إنا للله وإنا إليه راجعون.

    عبد الله

    ردحذف