إعلان

إعلان

الأحد، 4 ديسمبر 2011

الموريتاني الذي غزا كندا بـجيبو جن وبيصاب.

محمد محمود ولد العتيق " صور تقدمي "
كان حلمه أن يمتطى متن طائرة إلى كندا، فيضرب بقدميه ولاياتها ومقاطعاتها الثلاثة عشر، و يتسلق بحماسه المتوقد جبال روكي .. فهنا كان تترآى له نهاية البؤس والشقاء السرمدي، وهنا كان يدغدغ مشاعره حلم النجاح. 

..
لقد تقدم مرات إلى السفارة الكندية بطلب تأشيرة سفر، وكانت ترده في كل مرة صِفر اليدين. إنه أشبه بخاطب يقدع انفه حين يطلب يد عشيقته. 


فجأة، وفي لحظة غير متوقعة، حصل محمد محمود ولد العتيكَ  (بكاف معقودة) على تأشيرة كندا.. كان ذلك في سبتمبر 1996.. أمر لا يصدق.. ولحظة لا يمكن نسيانها.. هرع إلى المطار لا يلوي على أحد، ولم يكن في جيبه أكثر من 500 أوقية، إلا أنه قرر مساورة الأقدار.. قرر أن يأخذ الدنيا غلاباً..

- "
لن أفكر في عقبى الأمور. لن اترك العقل الرصين الهادئ يعوق أحلامي الجامحة.. قليل من الجنون ضروري أحياناً.. المنفلوطي يقول: إنه لا يغير نواميس الكون سوى المجانين.. إذن، دعوني أُجرب الجنون!"..

..
ودّع أهله المصعوقين من هول المغامرة، وأخبرهم أن شيئا في صدره يأمره أن لا يتوقف.. كانت دموعٌ وآهاتٌ ونصائحُ و "أوصيك وأوصي نفسي بتقوى الله".. ثم اخذ متاعه القليل جداً وامتطى متن سيارة"التاكسي". فكانت تلك خطوته الأولى على طريق الألف ميل. 

يقول ولد العتيك "وجدت أمامي في الطائرة أصدقاء طفولة.. كنا ندرس سوية ونلعب سوية. فرحوا برؤيتي واستقبلوني بحفاوة بالغة. كانوا ذاهبين لفرنسا حيث كان علىَ المرور لانتظار مبلغ مالي يحوله لي ابن خالتي في الإمارات. لأقطع منه تذكرة كندا، فتذكرتي كانت لفرنسا فقط.. عرقلوني في مطار باريس، فالشرطي الذي تولّى إجراءاتي يصر على أن أقطع تذكرة كندا و أنا مُعدَم.. كان المأزق حرجاً إلى أن تدخل أحد أصدقائي والتزم بتكاليف سفري.

لم يسمح لي بالبقاء في باريس اكثر من ثلاثة أيام.. وقد تصادفت الأيام الثلاثة مع عطلة نهاية الأسبوع لدولة الإمارات. فعزّ على أن أظفر بابن خالتي في الهاتف.. إنه كما - بدا لي- خارج نطاق التغطية.. كان الأمر محرجاً، ولكن أصدقائي الموريتانيين تولّوا مشكورين قطع التذكرة".  

وصلت الى كندا، وليس في جيبي سوى ثلاث دولارات. كانت تجربة حمقاء، ولكنني كنت مستعدا لكل الاحتمالات، متوقعا أسوا الخطوب.. اتصلت بالرقم (411) وطلبت منهم جردا بالأسماء التي تحتوي على كلمة Ould في أتاوا.. فأعطوني سبعة أسماء كان احدهم صديقي سليمان ولد ابريهم.. اتصلت به فأحسن استقبالي.. وبدأت العمل من يومي الأول:

كان هنالك لبناني افتتح مطعما جديدا وكان بصدد الإعلان عنه، فاتفقت معه على توزيع بطاقات الإشهار مقابل أجر زهيد ما كان ليحصل على مثله من أحد.. وكانت مهنة ملائمة لي ، فأقدامي البدوية التي تعودت الضرب في عِراض الأرض، لم يكن ليزعجها ان تقطع مدينة "هول" الكندية شبراً شبراً، ثم تنوعت مجالات عملي من المخابز إلى المطاعم. وخلال هذه الفترة حققت ذلك الحلم البعيد بان أقطع طول كندا وعرضها، من غربيها إلى شرقيها، خلال 15 يوماً.

وحين "تعبت من السفر الطويل حقائبي" رجعت أدراجي إلى مدينة "هول" التي لم يطل بها مقامي. فقد أسرتني موريال بسحرها وميزتها الثقافية.. لم استطع مواصلة الدراسة فيها فقد كانت التكاليف باهظة، فراودتني فكرة السفر إلى أمريكا لجني المال.. مكثت هنالك عامين متنقلا مابين نيويورك وبوسطن وكنتاكي. ولكن قلبي لم يهدأ حنينه لأول منزل،  فعدت إلى موريال. وحاولت ان أحقق حلم والدي بان أكون مثله طبيب أسنان، ولكن ظروف أسرتي التي كانت تقتضي مني مساعدتهم تُجبِرني على العمل.
قررت أن أفتح مطعما موريتانيا، وكانت الفكرة سهلة ممتنعة، فأغلب الناس هنالك لا يعرفون موريتانيا.

اتذكر أن مذيع البرنامج الشهير "كلتير شوك" كان يسأل رواد المطعم: هل يعرفون موريتانيا، فيردون بالنفي.. ولكنني قررت المغامرة.. قررت أن أخوض غمار تلك التجربة الحمقاء.. فبدأت بداية بسيطةً، بساطة حياتنا في الصحراء.. المقاعد ستة، وطاولتان، وفرن للطهي، وقِدران للطبيخ.. ولم تكن لديّ ثلاجة.. وكان كل ذلك مما يجذب أنظار الرواد. فكنت محط رحال عشاق البساطة في تلك الحياة المعقدة.."فمن يريد أن يأكل طعاما أعد من حينه فعليه بمطعم الخيمة" .. وكان اغلب زبائني من الوزراء والصحفيين والفنانين والمثقفين وشخصيات المجتمع المدني.. وقد كتب الكثير من الصحفيين عن المطعم، حتى تمكّن في عامه الأول من حصد 5 ميداليات. وصُنّف خلال سنتين أحد أحسن المطاعم الإفريقية في كندا.

ولأنني لم أعد العدة للشتاء الذي أقبل بزمهريره القارس، فأكل الندى سقف المطعم، مما أضطرني لأستبداله بمحل آخر، كان من حسن ظني أنه أحسن وأوسع. وقد ساعدني صديق لي مصمم معماري في تصميمه. فجعلنا منه مخيما بدويا صغيراً، يحس رائده أنه في صحراء يتماوج السراب بقيعانها، وتتراقص السّعالي. أو أنه في أدغال إفريقيا الاستوائية.

ورويداً.. رويداً.. بدأ الزبائن يتقاطرون.. وبدأت الحفلات والأعراس والمؤتمرات تنظم فيه، مرةً عن العرب والإسلام، ومرة عن الشعر والموسيقى الرحالة.

وكان يرتاده البوذيون والسيخ وكلهم يحس أنه إنما صمم من أجله.

وقد نظمت فيه عدة ندوات صوفية عن الطريقة النقشبندية. كما أنني ساعدت رسميا في فتح مركز صوفي في الدار الموالية للمطعم.

..
كانت الزخارف على طراز نقوش قرية تاجبني الواقعة في كيدي ماغا.

وقد ألهمني احتكاكي بالكنديين أن أبرمج رحلات سياحية على موريتانيا.. وقد بدأت المشروع من سنتين، ولم أكن أتوخى فيه مجرد الربح. وإنما أراه مساعدة للاقتصاد الوطني، وتعريفاً بثقافتنا الرائعة. 

تصوروا أن هنالك 25 شخصا في موريال ما يزالون يطلبون مني أن أضمهم لرحلة يناير القادم.

طريقتي مختلفة عما تتبعه وكالات السياحة.. فأنا أفرجهم على ثقافة البلد وحضارته.

وهناك أيضا فكرة قديمة لدي، لقيت رواجاً باهرا في المجتمع الكندي.  وهي بتطوير زركشة وتطريز الحقائب المصنوعة من الجلود المحلية  وأعفصة لبلاستيك.. لقد اعجبتهم الفكرة، ولدي اليوم طلبات لأكثر من 200 حقيبة يد، صنعتها وزخرفتها أكف نساء موريتانيات. وكان يعجبهم فيها أنها رائعة وأنها تحافظ على البيئة. وهكذا أيضا نصنع بطانيات وصدريات تستخدم ضد التلوث.

لاحظوا معي ما يعنيه أن نكون منتجين ومحافظين على فننا القديم ومواكبين لخطوات عصرنا السريعة.

من طرائف ما قمت به في مطعم "الخيمة" أنني في عيد "نويل" الذي اكتسى طابعا تجاريا صرفاُ، فلم يعد ذا صبغة دينية شعائرية، نظمت حفلا لـ"نويل الأزرق" والزرقة هي لون الرجل الصحراوي. 


شنفت مسامعهم بقصة اخترعتها عن "بابا نويل الصحراء" تحتوي على الكثير من الطُّرف والنوادر، وقصة "عنتر وعبلة في مونتريال" وقد لقيتا إعجابا منقطع النظير من لدن الجمهور الكندي.

ولي أيضا قصة عجيبة مع "بِيصَاب" او "الكركديه" كما يسمونه في المشرق:

كانت إحدى زبوناتي اللواتي اصطحبهن في رحلاتي السياحية إلى موريتانيا قد شربت عصير "بيصاب" في نواكشوط فأعجبت به كثيرا. وكانت تُلِحّ عليّ في بيعه هنالك. وتؤكد لي إيمانها بأنه سيلاقي قبولاً لدى الكنديين.

وفي ذكرى استقلال كيبك، كانت تنظم مهرجانات يحضرها زهاء 30 ألف متفرج. وقد ساعدتني زبونتي تلك على الحصول على محل اتخذته لبيع "بيصاب".

كانت الحرارة تبلغ 40 درجة، وكان هنالك صحفي من "راديو كندا"، شرب كوبين من "بيصاب". ثم جعل يقول في مراسلته:

-        
لماذا تجلسون في منازلكم، والحفل صاخب، مبتهج، وهناك مشروب إفريقي منعش، يغذي الروح.. وما هي إلا ساعة حتى ورد عليّ 1600 زبون.. وخلصت الكمية، فطويت خيمتي، ورحلت تحت وابل إلحاح الزبائن ومطاردتهم.

وخلال أيام بدأت أفكر في تصنيعه، فجعلته في قوارير، وبعت منه في سنة واحدة أكثر من 30 ألف قنينة، ثم عملت منه مربّى وءايس كريم.. وقريبا سأعمل منه خلاًّ وسكاكر.

وقد ساعدتني الجالية الموريتانية في كندا كثيرا. ونحن الآن بصدد الإعداد ليوم "المشوي الموريتاني" الذي أتولى الإشراف عليه هذه السنة. وكانت الجالية قد بدأت تنظيمه من 1989, وسيحضره هذا العام قرابة 350 شخصاً، منهم وزراء وبرلمانيون وشخصيات سامية.

...
هكذا أنا، بدأتها خطوةً صغيرة ثم تتابعت الخطوات، وسأواصل المسيرة لأعطي نموذج البدوي الطموح المثابر.فجّروا طاقاتِكم الكامنةَ في الدواخل، وسترون كم هو عظيم أن تكونوا موريتانيين


عن موقع تقدمي 


ملاحظة : محمد محمود ولد العتيق بقاف سليمة أو ولد " التيك " بكاف معقودة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق