إعلان

إعلان

الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

رحيل اليدالي ولد الشيخ ,,, نهاية ثورة ضد الظلم


المرحوم اليدالي ولد الشيخ
على تلك الشواطئ الهادئة في مدينة نواذيبو وفي جوها المعتدل صيفا والذي تموت حيتانه من البرد في الشتاء عرفت هذا الرجل الهادئ الذي لا تغير طبعه المعتدل وأخلاقه الطيبة عوامل الزمن مهما تبدلت الفصول ودارت الأيام.
ينحدر اليدالي ولد الشيخ ولد محمد محمود من ثلاث أسر معروفة على امتداد زمان شنقيط ومكانها، أسرة أهل الشيخ ولد محمد محمود الأبييرية الخاجيلية المشهورة التي أنجبت أشهر علماء ومثقفي وأطر موريتانيا قديما وحديثا والقارئ الكريم يعرفهم بالأسماء والنعوت، و أخواله الكرام، أسرة أهل محمد اليدالي التي هي مركز الإشعاع العلمي والأدبي والأخلاقي في المنطقة ويشهد لذلك الأديبان الكبيران المشهود لهما في أطراف موريتانيا بالتفوق والإبداع أحمد ومحمد ابنا محمد اليدالي، والأسرة الثالثة هي تلك التي ملأ صيتها موريتانيا وشغل الناس، أسرة آل الشيخ سيديا التي سار بمجدها الركبان في مشارق الأرض ومغاربها حتى صارت كالمثل، وتبارى في مدحها كبار شعراء وأدباء العصر مخلدين مناقبها الكريمة في روائعهم الأدبية الخالدة، ومازالت إلى اليوم مضرب المثل في النبل والشهامة والإباء.
وبهذا الإنتماء الثلاثي الأطراف   وجد اليدالي نفسه أمام رصيد هائل من الأخلاق والشيم الأصيلة، لم يجد عناء في  التشبث به دون أن تجرفه سيول القيم المادية الوافدة بغزارة من الغرب، بل إنه صرف حياته كلها في تنمية هذا الموروث الأخلاقي الكبير وتطويره رغم تعقيدات العصر ومشاكله ورغم أنه دخل معترك الحياة المدنية الحديثة مبكرا حيث تلقى تعليمه النظامي في المدرسة الفرنسية الحديثة وحصد أعلى الشهادات الأكاديمية من الجامعات الأوربية العريقة قبل أن يتقلد في ريعان شبابه وظائف سامية في الدولة ويتولى مهام الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية ووزارة العدل التي أشرف من خلالها على تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية لأول مرة في تاريخ البلاد المعاصر، وانبرى من على منصتها للدفاع عن سياسات النظام وتوجهه الإسلامي والعربي أمام مختلف المحافل الدولية المبادرة باستنكار تطبيق الشريعة، فكان محاميا مرموقا وخصما موفقا في معالجة هذا الملف الحقوقي المثير للجدل الذي تعهد بإقناع العالم بعدالته، وقد ساعدته على أداء هذه المهمة الصعبة ثقافته الواسعة وإلمامه الكامل بما يجري في العالم إضافة إلى مخزون وافر من القانون الوطني والدولي مدعوم بخمس لغات عالمية مهمة يتحدثها بنفس المستوى من الإتقان.
برز إسم اليدالي ولد الشيخ في مناسبات وطنية عديدة وفي مواقف نضالية متميزة كانت كلها في خدمة مبادئه وقناعاته الوطنية الراسخة، فقد قاد عشرات المسيرات دفاعا عن المظلومين وسجناء الرأي والمعتقلين السياسيين والحقوقيين، ونظم المهرجانات والمظاهرات من أجل فلسطين التي أحبها من قلبه وصرخ باسمها بملء فيه في أكثر من مناسبة تضامنية مع أهلها المقهورين، بيد أن شهرته النضالية بلغت ذروتها مع تلك الأحداث الأليمة التي شهدتها مدينة نواذيبو شتاء 1992 إثر إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية آنذاك، حيث تناقلت وسائل الإعلام على نطاق واسع نبأ اعتقاله التعسفي واحتجاجه الشديد على النتائج التي دعا الجماهير المعارضة إلى التظاهر السلمي ضدها في تعبئة شاملة لانتفاضة شعبية أصبحت منذ الوهلة الأولى غرضا لنيران  قوات الأمن، ولولا أن دماء زكية بدأت تسيل في تلك المظاهرات السلمية على أيدي زبانية النظام الدكتاتوري لغيرت ثورة نواذيبو الشعبية مجرى تاريخ البلاد وإلى الأبد.
خلال هذه المحطات النضالية المختلفة، تعرفت على اليدالي ولد الشيخ في فترة كان حزبنا المعارض معزولا ومحاصرا من طرف النظام، ومنبوذا وغير مرغوب فيه من قبل الشعب المغلوب على أمره، وكنا نصر على مواصلة النضال والتشبث بالحزب الذي أخذ النظام من طوله وعرضه وشهد هجرات كبيرة متتالية، ومن أجل الإبقاء على حشاشة من الروح فيه كانت هنالك نفقات شهرية عادية وحاجات استثنائية و متطلبات تسيير لابد من رصدها في الوقت المحدد، ولم يكن هنالك من يدفع غير بعض الأطر المعدودين إلى جانب اليدالي الذي يتكفل وحده بتحمل نصف الأعباء ويصر على ذلك معتمدا على دخله المحدود المثقل أصلا بضيافات الوفود الحزبية وتمويل النشاطات السياسية وما إلى ذلك مما تتطلبه ضرورة المحافظة على مكانة حزب كان في يوم من الأيام أكبر الأحزاب في المدينة، ولم يعد في جعبته من المناضلين إلا أنا وفاطمة بنت هيداله وسيادة الأمين الاتحادي المتفاني في النضال بغضا منه في الديكتاتور وحبا للوطن العزيز.
يعجبك في اليدالي إلى جانب أخلاقه الرفيعة، سعة ثقافته التي تشمل القانون والاقتصاد والتاريخ والعلوم السياسية والأدب العالمي، وقوة ذاكرته التي تحتفظ بذكريات الطفولة الأولى وحياة البداوة وثقافة الانتجاع وما يعج به قاموس البادية الموريتانية من مفردات قليلة التداول في عالم اليوم، وتمسكه بقيم الأصالة الصحراوية وبخصوصية المجتمع البيضاني وطابعه الخاص في تناغم فريد مع ما عاشه من تجارب في الحياة الغربية ومعرفته بأساليب الحضارة الحديثة ولغات العالم وآدابه وحياة شعرائه وفلاسفته وأنساب أسره النبيلة والمتواضعة، إضافة إلى إلمامه بتاريخ القبائل الإفريقية وملوكها وتقاليد الحكم لديها وقوانينها وأديانها وعاداتها الاجتماعية الغريبة، فقد حول تلك البطالة التي عاشها لمدة عقدين من الزمن بسبب مواقفه المعارضة للنظام، إلى فترة طلب للعلوم وتطلع على مختلف التجارب الثقافية وبحث واستزادة من معين العلوم النافعة الذي لا ينفد، ولم يقبل في يوم من الأيام أن يستسلم للتهميش ويبقى على حافة الحياة الوطنية كما أراد له النظام الجائر الذي تعمد حرمان البلاد من قدراته الفكرية والعلمية الهائلة.
بفقدان اليدالي ولد الشيخ سيذرف كثيرون دموعا غزيرة، وستفقد فئات كثيرة من المواطنين أملها الكبير في تحقق حلمها المنشود في التغيير الحقيقي، وسيبكي أصدقاء من مختلف الجهات والأعمار فقدوا دماثة خلقه وبشاشة وجهه وسعة ثقافته، ولكن المواطن البسيط هو أصدق الباكين و أغزرهم دمعا، فقد ظل الفقيد طيلة حياته يحمل همومه الثقيلة في قلبه ويبحث له عن سعادة دائمة تطرد بؤسه إلى الأبد، فلم تكن الحياة بالنسبة للفقيد رحمه الله إلا مجرد فرصة يجب انتهازها للبحث عن السعادة الأبدية التي لا تتوفر إلا بالإخلاص وإشاعة العدل بين الناس والعمل على إسعادهم وحل مشاكلهم وإدخال السرور على نفوسهم، وهذه حسب رأيه هي مهمة كل ناشط سياسي ينشد الرخاء لوطنه ومواطنيه، وأساس ثابت يجب أن تبنى عليه المواقف الوطنية من سياسة كل حاكم تربع على كرسي الرئاسة.
طيب الله ثراه.

بقلم : محمدفال ولد محمد حرمه
نقلا عن موقع السراج الإخباري                                                                                      


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق