إعلان

إعلان

الأحد، 13 فبراير 2011

رائحة الجثث


بقلم: أحمد ولد شعبان

إن الدارس للشأن العربي أو المهتم بتقلبات الظواهر السياسية في الوطن العربي يلاحظ خلال هذه الفترة الراهنة و بشكل واضح أن كافة البلدان العربية – من المحيط إلى الخليج – تعيش مرحلة جديدة من كتابة فصل جديد من فصول تاريخ جديد لها، كتبت جميع سيناريوهاته بأنامل جيل جديد من الشباب العربي المثقف والطامح إلى غد يسعه، ثم أشرفوا بأنفسهم على إخراجه و لم يكلوه إلى غيرهم، هؤلاء الشباب وصفوا- في أغلب الأحيان- بأنهم شباب ثائرون على كل واقع بائس، و عاشقون للتضحية و التطلع إلى نيل عيش الكرماء أو الفوز بموت الشهداء أو هكذا اختاروا لأنفسهم و لأمتهم أن يكونوا، و هذه هي سمة من له كرامة يغار عليها.
 فلو وقفت على أي من حدى العتبات العلوية لتاريخ الأنظمة السياسية العربية، لشهدت تاريخا ينزف دما وقيحا، تاريخا تفوح منه رائحة الموت بسبب ممارسة عمليات القتل السرية التي تنفذها هذه الأنظمة الديكتاتورية، تاريخا لو أمعنت فيه النظر لويت منه خوفا و رعبا، أنظمة تعشق الظلم و الغبن و البطش، و تتخذ من الاعتقالات السياسية و المعاملات التعسفية من خلال أجهزة الأمن، و مضايقة أصاب الرأي، و النهج الميكيافلي سبيلا لإحكام القبضة على العباد و البلاد.
 ما حصل في الكويت مؤخرا خلال الشهر الأخير من العام الماضي 2010 من ظلم و اعتداء على كرامة و حرية النواب البرلمانين من قبل أجهزة الأمن واعتقال بعضهم، ليبرهن بحق على أننا في أزمة خطيرة بين الشعوب و الأنظمة الحاكمة، و هو كذلك دليل ساطع على عدم مسوؤلية هذه الأجهزة و الأنظمة معا. فالنواب هم ممثلين للشعب و ناطقين باسمه، و الاعتداء عليهم يعتبر إعتداء على حرية و كرامة شعب بأكمله، و هذه التصرفات غير أخلاقية و لا هي ديمقراطية في بلدان طالما تشدقت بالديمقراطية و حرية التعبير، في حين تضيق الخناق على أصحاب الرأي السياسي إما من خلال الزج بهم في ظلام السجون النتنة أو نفيهم إلى الخارج حتى لا تسمع أصواتهم الناغمة عليهم. و هذا الإجراء هو الذي دفع بالكثير من المثقفين العرب إلى التطبيل و التصفيق لهذه الأنظمة البوليسية، إما رغبة منهم في إمتلاء جيوبهم و بطونهم من مال الفساد السياسي و الإقتصادي، أو رهبة من مكر وشر هؤلاء الطغاة، أو دفع بهم إلى الأمرين معا.
 ثم إن الحديث عن شفافية الإنتخابات في البلدان العربية سواء كانت رئاسية أو بلدية أو برلمانية...إلخ يعتبر من باب العبثية لأن أمرها محسوم سلفا، و لن يكون إلا مزورة لصالح الحاكم، و بالتالي فإن تعبير المواطن البسيط من خلال الإدلاء بصوته الإنتخابي لم يعد يكتسي أي أهمية و لا قدسية، لإن الحاكم العربي خالد في حكمه حتى يلقى نحبه و لا شيء يستطيع تحريكه، و نجله الأكبر هو الوريث الشرعي الوحيد لكامل سلطانه و حكمه. فأي ديمقراطية هذه و أي شفافية يتفاخر بها هؤلاء؟؟. فسبحان الله، يقول تعالى"" قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء و تذل من تشاء"" صدق الله العظيم، كأن هذه الآية الكريمة واردة في حكام العرب و حدهم، فلم يسبق لأي حاكم عربي- إلا في حالات أستثنائية قليلة – أن ترك الحكم رغبة منه منذ عهد الخلافة الإسلامية إلى يومنا هذا، فالحاكم عندنا لا يقادر السلطة إلا بانقلاب عسكري عليه، أو بتدبير عملية قتل تبيت له، أو بمنية طبيعية توافيه لتضع حدا لنهاية حياته، و بالتالي أصبحت السلطة لا يتم تداولها إلا بين العسكريين و عن طريق الإنقلابات العسكرية أو عمليات القتل، و كأن أشباح لعنة الشعوب المظلمة تلاحقهم حتى أصبح بعضهم ينقلب على البعض الأخر.
 تحت ضوء ما تحدثنا عنه يستمر الطغاة في طغيانهم و الأغنياء في غناهم و الفقراء في فقرهم و الشباب في بطالتهم، و على لسان ذكر "البطالة" فإنها أصبحت عائقا يشل همم الشباب الطامح إلى غد أفضل من خلال الإبداع الفكري والإزدهار التكنولوجي والتقدم الثقافي والرفاه الإقتصادي، و هو غد لا يعاش إلا في كنف الأحلام والخيال أو على شاشات القنوات التلفزيونية الرسمية لهذه الأنظمة. هذه البطالة هي ذاتها التي دفعت بالكثير من الشباب العربي إلى الهجرة خارج البلاد إن لم يتعفن في رواق الموت، و منهم من دفعت به إلى المتاجرة بالمخدرات و تعاطيها، و منهم من دفعت به إلى الإنخراط في التنظيمات المسلحة المتطرفة...إلخ. ضف إلى ذلك أن الشباب العربي لم يعد يجد ذاته في الأحزاب و الحركات السياسية، لأنها لم تعد تعكس همومهم بالشكل الصحيح، ولا كامل تطلعاتهم و طموحاتهم الكبيرة إلى واقع أفضل من الذي يعيشون.
 إن العوامل الأساسية وراء إشتعال الثورات الشعبية في تونس ثم مصر لاحقا يمكن إجمالها فيمايلي:
§      إستمرار الأنظمة العربية في دكتاتوريتها و ظلمها لشعوبها و خلودهم في الحكم إلى ما شاء الله، و إنتهاجهم نظرية العبثية السياسية و الفساد الأقتصادي و العنف الميكيافلي...
§      ارتفاع نسبة البطالة في أوساط الشباب المتعلم من حملة الشهادات الأكادمية و تضيق الخناق و مساحة الحرية عليهم، فكما هو معروف "الضغط يولد الإنفجار"
§      ارتفاع نسبة الفقر في الدول العربية في ظل عجزها عن خلق فرص للعمل، زايد الغلاء المستمر للأسعار...
§      فشل رجال السياسة و المثقفين العرب في تغير واقع هذه الشعوب و طمئنتهم حتى على أنهم على مرمى حجر من تحقيق أحلامهم الوردية.
كل هذه العوامل و غيرها كانت السبب وراء كسر حاجز الخوف من الموت لدى الشباب من أجل تحقيق عدالة إجتماعية في حقهم، كما كانت وراء اشتعال الثورات الشعبية العربية التي دشنها الشعب التونسي بعد حرق الشاب التونسي محمد ولد بوعزيزي لنفسه، بعد أن عانى ما عانه من فقر و ظلم و حرمان وانتهاك للكرامة، فلم يجد من يشكو إليه مظالمه، ففكر في حرق شبابه وهو في زهاء ربيعه، ليكوي بلهيب بجثمانه من حرموه و ظلموه و سرقوا البشاشة من وجهه و حقه في الحياة.
 ولد بوعزيزي لم يكن مجرد شاب فاشل في الحياة حرق نفسه لاستشعاره بالعجز، بل كان ظاهرة تعبر عن واقع الملاين من الشباب العربي الذين أحترقوا من الداخل و لم تعد أجسادهم تشعر بأي شيء.
يقول شاعر النضال العربي أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
و لا بد لليل أن ينجلي
و لا بد للقيد أن ينكسر
و يقول الشاعر أحمد ولد عبد القادر:
في الجماهير تكمن المعجزات  و من الظلم تولد الحريات.
فهاهو الشعب التونسي يجدد أرادته للحياة و يقرر أن يعيش من خلال ثورة الياسمين التي أطاحت بالرئيس التونسي السابق زين العابدين بن على الذي لم يفهم شعبه يوما على مدى 23 عاما، لكن الشعب بقوة إرادته أصر على أن يفهمه حق قدره عندهم، فهرب إلى الخارج تحت جنح الظلام بعد أن فهمهم في وقت متأخر. بهذا الجهد الجهيد يكتب الشعب التونسي الأبي بسواعد أبنائه الثائرين و دماء شهدائه الأحرار صفحة جديدة من تاريخ ثوراتهم على ظلم وإسترقاق الطغاة لهم. لعل أي قادم جديد لا يتأخر في فهم ما لم ينجح بن على في فهمه في الوقت المناسب ، أو لعل نفس ولد بوعزيزي - الراجعة إلى ربها – تطمئن و ترقد بسلام.
 ولأن حالة ولد بوعزيزي كانت ظاهرة تعبر عن حالة الملاين من الشباب العربي، فقد أقدم شباب آخرون على حرق أنفسم في الجزائر و موريتانيا و اليمن و مصر، ليعبروا بأجسادهم على أنهم يعيشون الأوضاع ذاتها، بل هم أشد. و مما لا شك فيه هو أن رائحة جثمان هؤلاء الشباب أزعجت جميع حكام العرب من المحيط إلى الخليج و مازالت تهز كرسي الرئيس المصري حسني مبارك الذي مازال يكابد و يعاني نتائج غضب الشعب المصري الثائر على أوضاعه، و لا ندري ما إذا كانوا سينجحون في إسقاطه و وضع حد لنهاية ثلاثة عقود من الحكم البوليسي و تصفيات عصابات البلطجية و تزوير الإنتخابات و التلاعب بها، و بالنصوص الدستورية؟؟ !! . و مما لا مراء فيه هو أن شباب الجيل الحالي حقق خلال شهر ونصف ما لم يحققه شيوخ السياسة على إمتداد ستة عقود متوالية. فانتقاد الحاكم أصبح سلعة تباع و تشترى، بل كالماء و النار والهوى.
هنا و بدور كشاب عربي أشيد بما قدمه زملائي في تونس و مصر، لكنني أخشى على جهود الثورة المصرية من أن تضيع في مهب الريح بسبب موقفين إثنين:
·      جشع السياسيين المعارضين لنظام حسني مبارك: إذ شرعوا في التسابق إلى قطفثمار هذه الثورة الشبابية التي لم تنضج بعد، و يعتبرون أي تنازل تقدمه لهم السلطة مكسبا سياسيا لا يجب تفويته، فجميع الأحزاب السياسية لها مصالحها التي تخصها، و كل حزب بما لديه فرحون. غير أن الشباب يطمح إلى ما هو أبعد من ذلك، ألا و هو إسقاط نظام حسني مبارك.
·      موقف الدول الغربية، و خاصة موفق الولايات المتحدة الأمريكية المرتبك:
فالولايات المتحدة الأمريكية تحث على الإنتقال السلس لتسليم السلطة، و هو حسب إعتقادي نوع من محاولة اللعب على الوقت من أجل إخراج بديل طيع يحل محل حسني مبارك- الفارق الصلاحية- الذي طالما حفظ لهم و لإسرائيل مصالحهم في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا، لأن أمريكا الآن تخشى من أن تقفز حركة جماعة الأخوان المسليمن إلى السلطة في مصر و توليهم زمام الأمور بعد مبارك، ففي هذه الحالة قد يتكرر ما حصل في إيران بعد الثورة على الملك الشاه و صعود الإسلامين إلى السلطة، إذ أصبحت إيران فيما بعد تشكل أخطرتهديد على معسكر الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
 في الأخير هنيئا للشعب التونسي الأبي على فتح باب عصر الثورات الشعبية على الطغاة و الديكتاتورية، و هنيئا كذلك للشعب المصري على اختياره تجربة شقيقه التونسي، فسقوط حسني مبارك يعتبر سقوط جميع الأنظمة العربية القمعية، لأنهم أشبه ما يكنوا مثل لعبة الدمينو، التي تسقط جميع قطعها عند سقوط القطعة الأولى.

 ما يحدث الآن في شمال إفريقيا بقدر ما يعبر عن شعور شعوبها بالظلم و الحرمان، يعبر بحق كذلك عن مستوى وعي شباب هذه المنطقة لحقوقهم و مسوؤلياتهم، و حجم تطلعاتهم لواقع جيد و مستقبل أفضل. ما حدث خلال شهر ونصف من عصيان مدني غير سياسات هذه الدول، وأوجد إصلاحات كثيرة أخرى ما كان لها أن تحدث لولا ما حدث. أما رائحة جثمان محمد ولد بوعزيزي و رفاقه باقية إلى ما شاء الله و سوف تزعج كل طاغية ديكتاتوري تسول له نفسه الخلود أو أن يعيث في الأرض فسادا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق